سورة هود - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)}
{لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة هُمُ الاخسرون} أي لا أحد أبين أو أكثر خسرانًا منهم، فأفعل للزيادة إما في الكم. أو الكيف، وتعريف المسند بلام الجنس لإفادة الحصر، وإن جعل {هُمْ} ضمير فصل أفاد تأكيد الاختصاص، وإن جعل مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر أن أفاد تأكيد الحكم، وفي {لاَ جَرَمَ} أقوال: ففي البحر عن الزجاج أن لا نافية ومنفيها محذوف أي لا ينفعهم فعلمهم مثلا، وجرم فعل ماض عنى كسب يقال: جرمت الذنب إذا كسبته؛ وقال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل *** بما جرمت يداه وما اعتدينا
وما بعده مفعوله، وفاعله ما دل عليه الكلام أي كسب ذلك أظهرية أو أكثرية خسرانهم، وحكى هذا عن الأزهري، ونقل عن سيبويه أن لا نافية حسا نقل عن الزجاج، وجرم فعل ماض عنى حق، وما بعد فاعله كأنه قيل: لا ينفعهم ذلك الفعل حق {جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاخرة} الخ.
وذكر أبو حيان أن مدهب سيبويه. وكذا الخليل أيضًا كون مجموع {لاَ جَرَمَ} عنى حق وأن ما بعده رفع به على الفاعلية، وقيل: {لا} صلة و{جَرَمَ} فعل عنى كسب أو حق، وعن الكسائي أن {لا} نافية {وجرم} اسمها مبني معها على الفتح نحو لا رجل، والمعنى لا ضد ولا منع، والظاهر أن الخبر على هذا محذوف وحذف حرف الجر من أن ويقدر حسا يقتضيه المعنى، وقيل: إن {لاَ جَرَمَ} اسم {لا} ومعناه القطع من جرمت الشيء أي قطعته، والمعنى لا قطع لثبوت أكثرية خسرانهم أي إن ذلك لا ينقطع في وقت فيكون خلافه.
ونقل السيرافي عن الزجاج أن {لاَ جَرَمَ} في الأصل عنى لا يدخلنكم في الجرم أي الإثم كإثمه أي أدخله في الاثم، ثم كثر استعماله حتى صار عنى لا بد، ونقل هذا المعنى عن الفراء، وفي البحر أن {جَرَمَ} عليه اسم {لا}، وقيل: إن {جَرَمَ} عنى باطل إما على أنه موضوع له، وإما أنه عنى كسب والباطل محتاج له، ومن هنا يفسر {لاَ جَرَمَ} عنى حقًا لأن الحق نقيض الباطل، وصار لا باطل يمينًا كلا كذب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا النبي لا كذب» وفي القاموس أنه يقال: {لاَ جَرَمَ}. ولاذا جرم، ولا أن ذا جرم. ولا عن ذا جرم. ولا جرم ككرم، و{لاَ جَرَمَ} بالضم أي لا بد. أو حقا. أو لا محالة وهذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم فلذلك يجاب عنه باللام، فيقال: {لاَ جَرَمَ} لآتينك انتهى، وفيه مخالفة لما نقله السيرافي عن الزجاج، وما ذكره من {لاَ جَرَمَ} بالضم عن أناس من العرب، ولكن قال الشهاب: إن في ثبوت هذه اللغة في فصيح كلامهم ترددًا، وجرم فيها يحتمل أن يكون اسمًا وأن يكون فعلًا مجهولًا سكن للتخفيف، وحكى بعضهم لا ذو جرم.
ولا عن جرم ولا جر بحذف الميم لكثرة الاستعمال كما حذفت الفاء من سوف لذلك في قولهم: سوترى.
والظاهر أن المقحمات بين {لا} و{جرم} زائدة، وإليه يشير كلام بعضهم، وحكى بغير لا جرم أنك أنت فعلت ذاك، ولعل المراد أن كونك الفاعل لا يحتاج إلى أن يقال فيه لا حرم فليراجع ذاك والله تعالى يتولى هداك.
ثم إنه تعالى لما ذكر طريق الكفار وأعمالهم وبين مصيرهم وما له شرع في شرح حال أضدادهم وهم المؤمنون وبيان ما لهم من العواقب الحميدة تكملة لما سلف من محاسن المؤمنين المذكورة عند جمع في قوله سبحانه: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} [هود: 17] الآية ليتبين ما بينهما من التباين البين حالا ومآلا فقال عز من قائل:


{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)}
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ} أي صدقوا بكل ما يجب التصديق به من القرآن وغيره ولا يكون ذلك إلا باستماع الحق ومشاهدة الآيات الآفاقية والأنفسية والتدبر فيها، أو المعنى فعلوا الإيمان واتصفوا به كما في فلان يعطى ويمنع {وَعَمِلُواْ الصالحات} أي الأعمال الصالحات ولعل المراد بها ما يشمل الترغيب في سلوك سبيل الله عز وجل ونحوه مما على ضده فريق الكفار {وَأَخْبَتُواْ إلى رَبّهِمْ} أي اطمؤنوا إليه سبحانه وخشعوا له، وأصل الإخبات نزول الخبت وهو المنخفض من الأرض، ثم أطلق على اطمئنان النفس والخشوع تشبيهًا للمعقول بالمحسوس ثم صار حقيقة فيه، ومنه الخبيت بالتاء المثناة للدنىء، وقيل: إن التاء بدل من الثاء المثلثة {أولئك} المنعوتون بتلك النعوت الجلية الشأن {أصحاب الجنة هُمْ فِيهَا خالدون} دائمون أبدًا وليس المراد حصر الخلود فيهم لأن العصاة من المؤمنين يدخلون الجنة عند أهل الحق ويخلدون فيها، ولعل من يدعى ذلك يريد بنفي الخلود عن العصاة نقصه من أوله كما قيل به فيما ستسمعه إن شاء الله تعالى:


{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}
{مَثَلُ الفريقين} المذكورين من المؤمنين والكفار أي حالهما العجيب، وأصل المثل كالمثل النظير، ثم استعير لقول شبه مضربه ورده ولا يكون إلا لما فيه غرابة وصار في ذلك حقيقة عرفية، ومن هنا يستعار للقصة والحال والصفة العجيبة.
{كالاعمى والاصم والبصير والسميع} أي كحال من جمع بين العمى والصمم، ومن جمع بين البصر والسمع فهناك تشبيهان: الأول تشبيه حال الكفرة الموصوفين بالتعامي والتصام عن آيات الله تعالى بحال من خلق أعمى أصم لا تنفعه عبارة ولا إشارة، والثاني تشبيه حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات فانتفعوا بأسماعهم وأبصارهم اهتداءًا إلى الجنة وانكفاءًا عما كانوا خابطين فيه من ضلال الكفر والدجنة بحال من هو بصير سميع يستضيء بالأنوار في الظلام ويستفيء غانم الأنذار والأبشار فوزًا بالمرام، والعطف لتنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما في قوله:
يا لهف زيابة للحرث ال *** صابح فالغانم فالآيب
ويحتمل أن يكون هناك أربع تشبيهات بأن يعتبر تشبيه حال كل من الفريقين. الفريق الكافر. والفريق المؤمن بحال اثنين أي مثل الفريق الكافر كالأعمى ومثله أيضًا كالأصم، ومثل الفريق المؤمن كالبصير ومثله أيضًا كالسميع، وقد يعتبر تنويع كل من الفريقين إلى نوعين فيشبه نوع من الكفاربالأعمى. ونوع منهم بالأصم ويشبه نوع من المؤمنين بالبصير. ونوع منهم بالسميع، واستبعد ذلك إذ تقسيم الكفار إلى مشبه بالأول ومشبه بالثاني وكذلك المؤمنون غير مقصود البتة بدليل نظائره في الآيات الأخر كقوله سبحانه: {وَمَا يَسْتَوِى الاعمى والبصير} [فاطر: 19] وكقوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] في الكفار الخلص، وقوله تبارك وتعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} [البقرة: 18] في المنافقين، وللآية على احتمالاتها شبه في الجملة بقول أمرىء القيس:
كأن قلوب الطير رطبًا ويابسا *** لدى وكرها العناب والحشف البالي
فتدبره، وقد يعتبر التشبيه تمثيليًا بأن ينتزع من حال الفريق الأول في تصامهم وتعاميهم المذكورين ووقوعهم بسبب ذلك في العذاب المضاعف والخسران الذي لا خسران فوقه هيئة منتزعة ممن فقد مشعري البصر. والسمع فتخطب في مسلكه فوقع في مهاوي الردي ولم يجد إلى مقصده سبيلًا، وينتزع من حال الفريق الثاني في استعمال مشاعرهم في آيات الله تعالى حسا ينبغي وفوزهم بدار الخلود هيئة تشبه بهيئة منتزعة ممن له بصر وسمع يستعملهما في مهماته فيهتدي إلى سبيله وينال مرامه، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر. ولعل أظهر الاحتمالات ما أشير إليه أولًا، والكلام من باب اللف والنشر، واللف إما تقديري إن اعتبر في الفريقين لأنه في قوة الكافرين والمؤمنين، أو تحقيقي إن اعتبر فيما دل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى} [هود: 18] الخ، وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ} [هود: 23] الآية، وأمر النشر ظاهر، ولا يخفى ما فيه من الطباق بين الأعمى والبصير وبين الأصم والسميع، وقدم ما للكافرين قيل: مراعاة لما تقدم ولأن السياق لبيان حالهم، وقدم الأعمى على الأصم لكونه أظهر وأشهر في سوء الحال منه.
وفي البحر إنما لم يجيء التركيب كالأعمى والبصير. والأصم والسميع ليكون كل من المتقابلين على إثر مقابله لأنه تعالى لما ذكر انسداد العين أتبعه بانسداد السمع، ولما ذكر انفتاح البصر أتبعه بانفتاح السمع وذلك هو الأسلوب في المقابلة والأتم في الاعجاز، وسيأتي إن شاء الله تعالى نظير ذلك في قوله سبحانه: {إِنَّ لَكَ أَن لا *تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تضحى} [طه: 118، 119] ثم الظاهر مما تقدم أن الكلام على حذف مضاف وهو مجرور بالكاف، والجار والمجرور متعلق حذوف وقع خبرًا عن مثل.
وجوز أن تكون الكاف نفسها خبر المبتدأ ويكون معناها معنى المثل، ولا حاجة إلى تقدير مضاف أي مثل الفريقين مثل الأعمى والأصم والبصير والسميع {هَلْ يَسْتَوِيَانِ} يعني الفريقين المذكورين، والاستفهام إنكاري مذكر على ما قيل: لما سبق من إنكار المماثلة في قوله سبحانه: {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} [هود: 17] إلخ {مَثَلًا} أي حالا وصفة ونصبه على التمييز المحول عن الفاعل، والأصل هل يستوي مثلهما.
وجوز ابن عطية أن يكون حالا، وفيه بعد {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتشكون في عدم الاستوار وما بينهما من التباين أو تغفلون عنه فلا تتذكرونه بالتأمل فيما ذكر لكم من المثل، فالهمزة للاستفهام الإنكاري وهو وارد على المعطوفين معًا أو أتسمعون هذا فلا تتذكرون فيكون الإنكار واردًا على عدم التذكر بعد تحقق ما يوجب وجوده وهو المثل المضروب أي أفلا تفعلون التذكر، أو أفلا تعقلون، ومعنى إنكار عدم التذكر استبعاده من المخاطبين وأنه مما لا يصح أن يقع، وليس من قبيل الإنكار في {أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ} [هود: 17] و{هَلْ يَسْتَوِيَانِ} فإن ذلك لنفي المماثلة ونفي الاستواء، ثم إنه تعالى شرع في ذكر قصص الأنبياء الداعين إلى الله تعالى وبيان حالهم مع أممهم ليزداد صلى الله عليه وسلم تشميرًا في الدعوة وتحملا لما يقاسيه من المعاندين فقال عز من قائل:

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11